اكثر من مائة وخمسون عاماً تقف شاهدة على عراقة البرلمان المصرى والذى يقدم بتاريخه العريق نموذجاً فريداً بين برلمانات العالم فى ارساء دعائم الأطر المؤسسية لتدشين أسس الحياة النيابية السليمة بمعناها الاجرائى الصحيح ليس فقط لعراقة نشأته التى ترجع إلى عام 1866 ولكن أيضاً لكونه يعد منارة تنويرية لنشر الثقافه البرلمانية ونبراساً مضيئاً تشع من خلاله قيم الممارسة الديمقراطية السليمة التى استلهمت من فيضها الشعوب العربية والافريقية نموذجاً يحتذى به فى بناء تجربتها البرلمانية ليقف البرلمان المصرى شاهداً على التاريخ وراوياً لفصولة وكاتباً لأحداثه - ولقد شهد البرلمان المصرى لحظات تاريخية فارقة غيرت مجرى الحياة السياسية المصرية وألقت بظلال التغيير على ملامح المنظومة الاقليمية والدولية كان من أهمها الخطاب التاريخى للرئيس جمال عبد الناصر الذى ألقاه أمام البرلمان فى 5/4/1958 بمناسبة إعلان الوحدة بين مصر وسوريا وكذلك بيانه بالعدول عن التنحى عن الحكم فى 10/6/1967 والذى ألقاه نيابة عنه رئيس مجلس الأمة أنور السادات وخطاب النصر الشهير للرئيس السادات بعد عبور القوات المسلحة قناة السويس عام 1973 واعلان الرئيس السادات عبر منبر البرلمان المصرى عن نيته لزيادة الكنيست الإسرائيلى عام 1977 .

وتعد الحياة النيابية المصرية بحق ملحمة وطنية مرت بمجموعة من الحقب التاريخية بدأت لبنتها الأولى فى الثانى والعشرين من أكتوبر 1866 فى عهد الخديوى اسماعيل بإنشاء ( مجلس شورى النواب ) أول مجلس نيابى منتخب يمتلك اختصاصات نيابية حيث أخذت لائحته الأساسية الكثير من اللوائح البرلمانية الأوروبية والتى منحته اختصاصاً مالياً يتيح له الحق فى الاطلاع على ميزانية الحكومة وغيرها من المسائل المالية التى تخص الدولة ، وما لبثت هذه الاختصاصات أن اتسعت مع اقرار اللائحة الأساسية الجديدة للمجلس عام 1879 والتى أقرت المسئولية الوزارية أمام البرلمان لأول مرة فضلاً عن منح سلطات أكبر فيما يخص الاختصاص المالى للمجلس .

ويتواكب تطوير الحياة السياسية فى مصر فى ظل ما اعتراها من زخم وحراك ثورى مع تطور الحياة النيابية ايضاً بالتزامن معها ليخرج مجلس النواب المصرى المنتخب عام 1881 من رحم الثورة العرابيه ممتلكاً اختصاصات رقابية لأول مرة إذ أصبح له حق توجيه السؤال للوزراء واستجوابهم ، إلا أن هذا المجلس لم يكتب له الاستمرار سوى عام واحد ليتحول النظام البرلمانى فى مصر للأخذ بنظام الغرفتين عام 1883 ( مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية ) . وذلك بموجب القانون النظامى المصرى الصادر أول مايو 1883 حيث استمر العمل بهذا النظام حتى عام 1913 إلى أن تمت العوده مرة أخرى إلى نظام الغرفة الواحده بإنشاء الجمعية التشريعية أول يوليو 1913 .

ويظل الحراك الثورى والإرادة الشعبيه المصرية هى صانعة التغيير والرافد الأساسى الملهم لتطوير الحياة النيابية فى مصر حيث كانت ثورة 1919 نبراساً وهادياً لإرساء دستور 1923 والذى أقر عودة نظام المجلس ذو الغرفتين مرة أخرى (مجلس الشيوخ ومجلس النواب) لينتخب أول مجلس نيابى حقيقى له سلطة سحب الثقة من الحكومة عام 1924 .

ومع بزوغ شمس ثورة 23 يوليو 1952 بدأت مصر فصلاً جديداً من تاريخ الحياة النيابية بعد تحولها من النظام الملكى إلى النظام الجمهورى والعودة إلى نظام المجلس ذو الغرفة الواحدة بإنشاء مجلس الأمة الأول عام 1957 بمقتضى دستور 1956 والذى تحول إلى مجلس الأمة للجمهورية العربية المتحدة بالتعيين عام 1960 حتى عام 1961 ليتشكل مجلس الأمة الثالث عام 1964 بمشاركة نسائية ملحوظة .

ومع بداية السبعينات من هذا القرن وبموجب دستور 1971 شهدت الحياة النيابية فى مصر تطوراً ملحوظاً من حيث التشكيل والاختصاصات حيث تم إنشاء مجلس الشعب والذى كان يتمتع بسلطات تشريعية ورقابية ومالية كاملة وغير مسبوقة بالإضافة إلى اختصاصات فى اقرار السياسة العامة للدولة وخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والموازنة العامة للدولة .

ويعد هذا المجلس الأطول عمراً والأكثر استقراراً فى تاريخ الحياة النيابية المصرية .

إلا أن التطوير ظل سمة من سمات الحياة النيابية المصرية ليأتى عام 1980 ايذاناً بعودة نظام الغرفتين مرة أخرى من خلال مجلسى الشعب والشورى بموجب استفتاء شعبى عام ليستمر العمل بنظام المجلسين حتى شهدت الحياة السياسية المصرية طفره من الحراك الشعبى باندلاع ثورتى 25 يناير و 30 يونيو أعقبها عدة أنتخابات تشريعية تمخضت عن نشأة البرلمان الحالى بموجب دستور 2014 والذى استفتى عليه الشعب فى 18 يناير 2014 والذى أعاد نظام المجلس ذو الغرفه الواحده ليصبح البرلمان المصرى تحت مسمى مجلس النواب عام 2016 ، ويعد المجلس الحالى طفرة غير مسبوقة فى تاريخ الحياة النيابية فى مصر سواء من حيث الاختصاصات التى انيطت إليه بموجب دستور 2014 أو من حيث تشكيلة الفريد والذى يضم لأول مرة (90) سيدة بنسبة (15%) من إجمالى أعضائه بالاضافة إلى تمثيل ذوى الإعاقة بـ (9) أعضاء ، والمصريين فى الخارج بـ (8) أعضاء ، فضلاً عن نسبة الشباب تحت 35 عاماً والتى تصل إلى ما يربو عن ربع أعضاء البرلمان ليصبح برلمان 2016 علامة فارقة فى تاريخ الحياة النيابية فى مصر تسطر بحروف من نور فصلاً جديداً فى سجل تاريخها النيابى العريق الذى يعد ملحمة وطنية متفردة يشهد فيها التاريخ على عمق وعراقة التجربة البرلمانية المصرية بين برلمانات العالم .